القول بإمكان التوبة وحصولها في حق العاجز عن المعصية
وأما القول الآخر -وهو الراجح- فهو أن التوبة ممكنة؛ حتى لا يقول أحد: كيف أتوب وقد تعذر علي ذلك؟! فإذا كان هناك رجل يقارف الزنا -والعياذ بالله-، فلما انقطعت الشهوة وارتخت الأعضاء واشتعل الرأس شيباً ولم يعد فيه قدرة على هذا الذنب ولا إمكانية؛ فإنا نقول له: إن التوبة ممكنة، وهي واجبة عليك؛ لأن أركان التوبة مجتمعة فيه، فمن شروط التوبة الندم، وهذا يمكن أن يتأتى منه الندم وإن كان قد أصبح في مقام العاجز عن الإتيان بالذنب، فلو كان قد قتل أو زنى أو فعل ما فعل وهو في السجن ينتظر الموت، فإنا نقول: يتوب مما ارتكب ومما جنى، وإن كان لن يخرج من الزنزانة والأغلال والقيود، ولا يمكنه أن يفعل المعصية، لكنا نقول له: تُب واندم على ما فعلت وفرطت. قال رحمه الله تعالى: (وفي المسند مرفوعاً: ( الندم توبة ) ) وهذا الحديث حسن، ولا يعني ذلك أن الندم هو الشرط الوحيد، لكن الندم يلزم منه الإقلاع؛ ويلزم منه -أيضاً- العزم على عدم المعاودة، وإلا فلا يكون ندماً، فالندم مجمع ومعقد شروط التوبة الأخرى. فإذا تحقق ندمه على الذنب، وتحقق لومه نفسه لأنها فعلت ذلك؛ فهذه توبة، وإذا صحب ذلك البكاء والحزن والألم على ما فات فهذا حري بأن يكون قد وصل إلى درجة المقربين أو الأتقياء الصالحين وإن كان قد عجز بالفعل عن تكرار مثل ذلك الذنب. ومن الأدلة النقلية التي استدل بها أصحاب هذا القول: أن الشرع قد نزل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها، وهذا من تمام حكمة الله تعالى، بل من كمال رحمته ولطفه بخلقه أنه نزل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً ) وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن بـالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله! وهم بـالمدينة ؟! قال: وهم بـالمدينة ، حبسهم العذر )، أي: حبسهم العذر الذي عذر الله تعالى به الذين تخلفوا ممن ليس عليهم حرج، كالأعمى والمريض وسائر من عذرهم الله، ولو أن حامية أبقاها الإمام أو القائد عمداً لحراسة بلد ما، فقامت بالحراسة في تلك المدينة ؛ لكان لها من الأجر مثل أجور الذين جاهدوا إذا رابطوا طاعة واحتساباً وسداداً لثغرة من ثغور المسلمين حتى لا يأتوا من ظهورهم، فالكل شريك حال وجود النية الصالحة الصادقة، وأمثال ذلك كثير. قال رحمه الله تعالى: (فتنزيل العاجز عن المعصية منزلة التارك لها قهراً مع نيته تركها اختياراً لو أمكنه منزلة التارك المختار أولى). يعني: إلحاقه بالتارك المختار أولى من إلحاقه بالتارك المضطر، وليس كما قال الأولون: إن هذا الرجل تاب اضطراراً. بل نقول: تاب اختياراً. قال رحمه الله تعالى: (يوضحه أن مفسدة الذنب التي يترتب عليها الوعيد تنشأ من العزم عليه تارة ومن فعله تارة). يعني أن التوبة النصوح من كل الذنوب، التي أمر الله بها في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ))[التحريم:8] المطلوب فيها أمران: أن لا يعود إلى الذنب، وأن يعزم على أن لا يعود؛ لأنه إذا عزم على أن يعود إلى الذنب وإن لم يجده ولم يتيسر له فيكون قد نقض التوبة ونقض شرطها -كما ذكرنا- وهو العزم على أن لا يعود، فإذا عزم على أن يعود فقد نقض شرط التوبة، فهذا الذي لا يستطيع العود يبقى من شأنه العزم على العود، فيمكن أن يعزم على أن يعود إلى الذنب، أو يعزم على أن لا يعود، فيكون تائباً أو غير تائب بحسب العزم وإن كان قد تعذر منه الفعل، كما قال رحمه الله تعالى: (إن هذا تعذر منه الفعل، ولكن قد لا يتعذر منه التمني والوداد). وحقيقة الأمر أن حقيقة الذنوب هي إفساد القلب، كما أن حقيقة الطاعة وغرضها هو إصلاح القلب، فهو موضع نظر الرب من عبده، فالقلوب هي التي ينظر الله إليها، ولا ينظر إلى الصور والأجساد كما جاء في الحديث، وكما قال صلى الله عليه وسلم: ( التقوى هاهنا وأشار إلى صدره )، وحقيقة التقوى أن يزجر الإنسان نفسه وقلبه وجوارحه عن معصية الله، وأن يوقر الله ويعظمه ويجل أمره، والأعمال مطلوبة وواجبة، لكن الأساس هو إصلاح هذه القلوب، فالذي لا يفعل الذنب قد يتمناه ويهواه ويفكر فيه ويحدث نفسه به ويمنيها به، وهذا -في الحقيقة- إيمانه ضعيف، ويوشك أن يقع في الذنب وإن لم يفعله، والآخر غير قادر على أن يفعل، وهو في حقيقة الأمر قد انقطعت شهوته وأمانيه من ذلك الذنب، فلا يعرض له أبداً، ولكن إن عرض فإنما يعرض له الندم عليه والخوف منه وكراهيته وبغضه، فهذا عمل عظيم. فإذا كانت حقيقة العمل هي عمل القلب، فندمه هذا أعظم من الذي لم يفعل مع قدرته، وصحيح أن هذا لن يفعل؛ لأنه لا يقدر على أن يفعل، لكن ما يأتي به في قلبه من ترك تمنيه، بل من ضد ذلك -وهو الندم والخوف واستشعار الرهبة من ذلك الذنب- خير عظيم، وهو أنفع له. قال رحمه الله تعالى: (والفرق بين هذا وبين المعاين ومن ورد القيامة أن التكليف قد انقطع بالمعاينة وورود القيامة). يرد على الذين استدلوا بالآية بالفرق بين هذا التائب من الذنب لعدم قدرته عليه، وبين الذي عاين الموت أو مقدماته أو أراد التوبة يوم القيامة، ذلك أن هذا الذي رأى الموت أو يوم القيامة انقطع عنه التكليف، فصار الوقت في حقه وقت محاسبة وليس وقت تكليف، فزمن التكليف قد انقضى، إذ زمنه ما كان قبل الغرغرة والمعاينة، أما العاجز عن الذنب فهو لا يزال في زمن التكليف، فيتصور منه أن يندم وأن يتوب، وهذا وحده كاف لأن نقول: إن التوبة متحققة ومرجوة له إن شاء الله تعالى.